يعتبر توم برّاك، بجذوره اللبنانية وتجاربه المتعددة مع اللبنانيين، شخصية قادرة على إظهار عاطفة تجاه لبنان. ومع ذلك، يرى فيه البعض مبعوثًا للإدارة الأمريكية يحمل ثوابت معينة تجاه القضايا الحساسة في لبنان والمنطقة. يظهر برّاك حماسة في الملف السوري، لكن زيارته الثانية إلى بيروت لم تظهر ثقة بقدرته على التوصل إلى حلول تتناسب مع استراتيجية بلاده وتحقق ما يريده لبنان.
زار برّاك بيروت للمرة الأولى في 19 حزيران الماضي، بعد ستة أيام من بدء العدوان الإسرائيلي على إيران وقبل ستة أيام من دخول بلاده الحرب. عاد أمس إلى بيروت في اليوم الذي يفترض أن يقنع فيه رئيسه دونالد ترامب رئيس وزراء الحروب في المنطقة بنيامين نتنياهو بوقف الحرب في غزة. دار نقاش حول ما سلمه برّاك للبنان في زيارته الأولى، مع حرص الجميع على عدم تسريب النص الحرفي لورقة برّاك.
خلال اجتماعه مع الرئيس جوزيف عون ولقاءاته مع الرئيسين نبيه بري ونواف سلام وآخرين، لم يكن برّاك مضطرًا لتسلم أوراق الرد اللبناني، حيث كان على تواصل دائم مع «فرق عمل» في لبنان نسقت مع الجهات اللبنانية خلال الأيام الخمسة الماضية. حتى أن شخصية بارزة ذكرت أن برّاك قرأ الرد اللبناني قبل دخوله الاجتماع مع رئيس الجمهورية. وأشار أحد الحاضرين إلى أن برّاك لم يقرأ الرد، بل استرسل في حديثه مع الرئيس عون، الذي تولى الشرح بإيجاز.
كان اللبنانيون يتبادلون الآراء المتباينة. البعض كان ينتظر من برّاك أن يعلن بدء جولة جديدة من الحرب الإسرائيلية، بينما رأى آخرون أنه سيعطي لبنان فرصة إضافية لإيجاد حل يرضي واشنطن. فريق ثالث لم تستفزه تصريحات برّاك، لكنها لم تزل القلق من خدعة جديدة.
ما الذي تغير بين الزيارتين؟ في الزيارة الأولى، كانت بلاده تعتقد أنها وإسرائيل ستنجزان عملية كبيرة في إيران، وأن النظام هناك سيسقط، ولن يكون هناك قدرة لحزب الله على الصمود. الفريق الأميركي اعتبر أن ما تحقق بين 13 و 15 حزيران يمثل نقطة تفوق لصالح إسرائيل، ما جعل برّاك غير مضطر لرفع الصوت عالياً.
أمس، كان برّاك على علم بنتائج المواجهة بين إسرائيل وأميركا وإيران، وأنها لم تكن كما أرادت إدارته. جهة أميركية أعدت توصية تتحدث عن «ارتفاع في معنويات حلفاء إيران» بعد الحرب. بالتالي، كان برّاك يعرف مسبقًا أن حزب الله لن يقبل التوقيع على صك الاستسلام الذي حمله في المرة الماضية، وهو ما شرحه الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم بصورة شبه يومية طوال أيام عاشوراء، قبل أن يحسم الجدل حول موقف الحزب: لا تسليم للسلاح!
لم يكن برّاك يتكل على أي من القوى اللبنانية المحلية، وحاول الاستفادة من ضغط سعودي قد يساعد في رفع منسوب الضغط على الرؤساء الثلاثة لحثهم على مواجهة حزب الله. لكن تبيّن لبرّاك، الذي ينسق أمور لبنان مع المندوب السامي السعودي يزيد بن فرحان، أنه يعرف الكثير عن ساسة لبنان، وقد وجد أن الأفضل أن يصارحهم بأن ما هو قائم لن يمثل مشكلة لأميركا، وأن إسرائيل ستعالج مشكلتها مع حزب الله على طريقتها، وأن ما بقي هو مشكلة تخص اللبنانيين، ولن يتدخل أحد في هذا الشأن.
يعرف برّاك أن تعليق بلاده على الرد اللبناني مرتبط بما سيتفق عليه ترامب مع نتنياهو، وعندما قال إنه لا يملك أي ضمانة بعدم لجوء إسرائيل إلى حرب جديدة، فهو كان يقول إن اجتماع واشنطن سيعطي الإشارة إلى طبيعة الوجهة في المرة المقبلة.
ما فعله برّاك كان جيدًا لجهة أنه لم يكذب في مسألة موقف بلاده من مصالح إسرائيل، وأنه كان صريحًا في عدم رهانه على دور لحلفائه في بيروت، وكان فجًّا بإعلان عدم استعداد بلاده لخوض معاركهم بالنيابة عنهم. لكن الأكثر خطورة هو أن برّاك، المهتم بنقل المساعدات المالية إلى سوريا حصراً في هذه الفترة، يعرف أن أهل الخليج ليس عندهم المال الكافي أصلاً، وحتى لا يكون هناك من انتظار لمنح لبنان حصة من أموال إعادة الإعمار، فقد وفّر لنفسه ولهذه الدول الحجة الفضلى: لبنان ليس جاهزاً لتلقّي الدعم!