عنب بلدي – سدرة الحريري
زينة، امرأة في أواخر الثلاثينيات، بملامح غجرية وهوية ضائعة، قد تبدو قصتها عادية في ظاهرها، لكن ما لا يُرى أكثر مما يُرى. زينة مكتومة القيد، تعيش كظلٍّ يتنفس، بلا اسم قانوني، بلا حقوق أو وجود رسمي في بلدٍ وُلدت فيه لكنها لم تُولد على الورق.
“حلمي أن أمتلك جواز سفر، وأن أسافر دون خوف”، تقول زينة، معبّرة عن أحلامها البسيطة بامتلاك أوراق ثبوتية تسمح لها بامتلاك منزل، أو السفر، أو حتى الحصول على شهادة تعليمية لم تتمكن من تحصيلها لأنها غير موجودة في سجلات الدولة.
وصمة وأحلام مدفونة
“يعرف الناس عن مجتمعنا الغجري أنه مجتمع منغلق، يعمل أبناؤه في الرقص والغناء، لا أحد يعلم أننا حاولنا أن نعمل في أماكن أخرى”، تقول زينة بصوت متوتر، يخفي خلفه سنوات من الخيبة.
زينة، التي فقدت “حب عمرها” كما تسميه (زوجها الذي استُشهد خلال الثورة السورية في مدينة حمص)، تتحدث عن لحظة نادرة من الشعور بالاستقرار قائلة، “لم أكن أحتاج إلى أحد وهو معي، لأول مرة شعرت بالأمان”. تتنهّد، ثم تتابع، “بعد استشهاده، لم يبقَ أمامي إلا أن أعود إلى المكان الوحيد الذي قبلني، النوادي الليلية”.
لا إحصاءات دقيقة
اليوم، تعمل زينة نادلة في مطعم، تقضي أكثر من 12 ساعة يوميًا في عمل مُجهد براتب زهيد، تتعرض فيه لإهانات متكررة. “يطلب مني المدير أن أُغري الزبائن كي يعودوا للمكان، وحين أرفض، ينهال عليّ بالشتائم. لا أملك خيارًا، لا أريد سوى إطعام طفلي”.
يعيش الآلاف من الغجر في سوريا دون إحصاءات دقيقة ترصد أعدادهم الرسمية، يطلقون على أنفسهم اسم “الدوم” أو “الضوم”، بينما يُعرفون في ألسنة الآخرين بألقاب شتى مثل “النور”، و”اللور”، و”القرباط”، وهي أسماء غالبًا ما تحمل في طيّاتها تمييزًا أو نظرة دونية.
لطالما تمركز الغجر في أرياف حمص وحلب واللاذقية وأطراف دمشق وعفرين، وعاشوا حياة متنقلة في الخيام، يمتهنون الرعي أو بعض المهن اليدوية الهامشية. وفي بدايات القرن الـ20، تسببت عواصف ثلجية قاسية بنفوق مواشيهم ما أجبر كثيرين منهم على هجر مهنتهم الأم، والبحث عن بدائل داخل المدن.
وفي مقاربات تقديرية، يصل عدد الغجر في محافظة دير الزور التي تجاور الحدود العراقية إلى نحو 1700 عائلة، وفي محافظة الرقة يرتفع العدد إلى الضعف تقريبًا، ومثله في محافظة حلب، إلا أن عددهم يزداد بكثرة ملحوظة في باديتي حمص وحماة، ففي حماه يصل عددهم إلى 4000 عائلة، بحسب مجلة “المجلة”.
وتشير دراسة بعنوان “المهمّشون في سورية أواخر القرن العشرين.. شهادات شفوية” للباحث عبد الله حنا، إلى أن أغلبية غجر سوريا يعيشون في فقر وتهميش اجتماعي مزمن، رغم أن قلة منهم استطاعت تحسين أوضاعها عبر العمل في مجالات الترفيه والفن. ومع اندلاع الحرب السورية في 2011، تفاقمت أوضاعهم بشكل ملحوظ.
لم يكن للغجر موقف سياسي واضح من النزاع، لكن ذلك لم يحمِهم من تداعياته، دُمّرت مناطق سكنهم في أطراف المدن، مثل حي جورة العرايس غرب حمص، فيما أُجبر من تبقى منهم على الانتقال بخيامهم نحو ساحات دمشق، هاربين من القصف والتشريد، وباحثين عن مكان لا يلفظهم.
إجراءات وزارة الداخلية
يُصنّف مكتومو القيد في سوريا إلى نوعين رئيسين، الأول يشمل الأفراد الذين ليس لديهم أي سجل في السجلات المدنية الرسمية، لا هم ولا آباؤهم أو أجدادهم، وهؤلاء يحتاجون إلى الحصول على جنسية، ويتم التعامل مع قضيتهم على أنها حالة غير مسجلة بالكامل، بحسب ما صرح به المكتب الإعلامي لوزارة الداخلية لصحيفة عنب بلدي.
أما النوع الثاني، فيتعلق بالأفراد الذين لهم أصول مسجلة في السجلات، لكن لم يُسجلوا بشكل رسمي لأسباب متعددة، مثل السفر أو غيره، وعادةً ما يكون هؤلاء فوق سن الـ18.
وفيما يخص إجراءات تسجيل مكتومي القيد، ذكر المكتب الإعلامي بوزارة الداخلية، أن القانون يشترط تقديم ملف “مكتوم قيد”، وإجراء فحص طبي لتحديد العمر، بالإضافة إلى ضرورة توفير بيان عائلي وأوراق تثبت تسجيل أفراد الأسرة في السجلات المدنية. إذا كان آباؤهم مسجلين، يمكن لهؤلاء الأفراد استكمال إجراءات التسجيل استنادًا إلى بيانات آبائهم.
وجهة نظر القانون
في الجانب القانوني لقضية مكتومي القيد، يوضح المحامي محمود الزرازرة، أن مكتومي القيد لا يملكون أي وثيقة رسمية تثبت هويتهم، باستثناء بطاقة تعريف يمنحها المختار، تُستخدم فقط لتسهيل حركتهم داخل البلاد، لكنها لا تخوّلهم الحصول على أي وثائق رسمية أخرى، كجواز السفر أو البطاقة الشخصية.
ويُبيّن الزرازرة أن إمكانية تسجيل مكتومي القيد تختلف تبعًا للوضع القانوني للوالدين، ففي حال كان الأب مسجّلًا والأم مكتومة القيد، يمكن تسجيل الطفل على قيود الأب، أما في الحالات التي يكون فيها كلا الوالدين مكتومي القيد، تصبح القضية أكثر تعقيدًا، وتتطلب أحيانًا العودة لتتبع أصول العائلة للعثور على فرد مسجل يمكن الاستناد إليه لتثبيت البقية.
ويضيف أن مثل هذه القضايا مرهقة ومكلفة، إذ تحتاج إلى وقت وجهد كبيرين، فضلًا عن الدقة العالية المطلوبة في إثبات النسب والقرابة.
من جهته، يوضح المحامي نبراس وطفة، أنه لا يوجد في القانون السوري أي نص يمنع الغجر من تسجيل قيودهم المدنية، لكن ما يمنعهم فعليًا هو مزيج من العوامل الاجتماعية والثقافية، أبرزها العادات والتقاليد السائدة داخل المجتمع الغجري، إلى جانب “ضعف الوعي القانوني لديهم”.
ويشير وطفة إلى أن مشكلة مكتومي القيد في هذا المجتمع تُعدّ تراكمية بطبيعتها، إذ تبدأ بوالدين غير مسجلين في سجلات الدولة، ما يؤدي تلقائيًا إلى بقاء أطفالهم مكتومي القيد أيضًا، فتتسلسل المشكلة جيلًا بعد جيل.
ويستذكر المحامي العقبات الأمنية التي كانت تواجه الغجر تحديدًا قبل الثورة السورية، فيقول، “حتى لو بادر الوالدان إلى تسجيل أطفالهما فور الولادة، فقد كان ذلك يتطلب موافقة أمنية من فرع الأمن السياسي، وذلك بسبب النظرة الأمنية والتمييز المرتبط بأصولهم العرقية”.
تمشي زينة كل صباح إلى عملها، لا تحمل في جيبها بطاقة تعريف، ولا في قلبها أملًا كبيرًا، لكنها تمشي. تمشي لأن الجوع لا ينتظر، ولأن طفلها لا يعرف أن أمه غير مرئية في سجلات الدولة. حلمها ليس كبيرًا، لا تطلب قصرًا ولا شهرة، فقط ورقة تُثبت أنها ابنة هذا الوطن، وأنها موجودة.
في بلد مزّقته الحرب، ما زال هناك من يُحرم من أبسط الحقوق، أن يكون له اسم، أن يكون له قيد، أن يُحسب إنسانًا.